_قلت لفايدة حمدي ...اين انت ...فالجميع يتحدثون عن الثورة ولا يذكرونك ؟
*لقد عدت الى عملي واتواصل مع الحياة كالعادة ...ويغمرني اهل سيدي بوزيد بعطفهم ومحبتهم واشكر لله فضلهم لانهم عرفوا في النهاية اني كنت مظلومة واني كنت ضحية حاول المخلوع الهارب ان يجعل مني كبش فداء ...ولقد دفعت الضريبة وكانت باهظة ولعله ابتلاء من الله حتى يمتحن قدرتي على الصبر والتحمل وقد كنت في مستوى ثقتي بالله .
_تمر الان سنة على اندلاع الثورة فكيف تقييمينها وانت ضحيتها ؟
*الثورة كانت وليدة تراكمات وهنات واخطاء ..لكننا الان اصبحنا نعيش فوضى خلاقة ..صحيح اننا نعبر كما نريد ونمارس حياتنا بلا عقد او خوف من ظلم المستبدين ..ولكن هذه الاعتصامات وهذا الاهدار للمال العام ..وانعدام الامن وخلافه ...قد يفشل الثورة ويعقد الامور اكثر ...اننا نحتاج الى التوادد والتراحم والتاخي والى وضع اليد في اليد فتنوس غالية على الجميع ويجب السعي الى وضعها في المقدمة بالحب والاحترام والذود عن مؤسساتها من التدمير والتخريب .
_ماذا تقولين للحكومة الجديدة ..وللرئيس الجديد ؟
*لو دامت لغيرك لما الت اليك ..واني اروم ان يرد الي اعتباري المعنوي والمادي فنحن انا والبوعزيزي كنا ضحايا ...ولكن جماعة الكراسي ارتكنوا في كراسيهم ونسوا سريعا انهم بسببنا وجدوا في تلك الاماكن اللائقة فعلى الاقل ردوا لنا اعتبارنا فقد ذقنا الامرين ولم نكابر وصمتنا صمت التعفف والزهد في كل شيء فعلى الاقل كلمة خير ترمم المعنويات ...ثم لا بد من العمل واستثمار الوقت في ما ينفع البلاد والعباد .
_مالذي يحزنك الان ويفري كبدك بعد عام على الثورة ؟
* والله اني حزينة جدا على امي التي تكاد تصاب بالعمى من كثرة ما بكت علي وانا في السجن ...لقد تحملت المسكينة ما لا طاقة لها به ...تركتها في صحة جيدة ووجدتها في حالة بائسة يائسة واصبحت تتعثر في مشيتها وتسقط كثيرا على الارض ...سامح الله من عكر حياتنا بلا اي ذنب اقترفناه .
_طيّب إذن ماذا بقي لك في الذاكرة من حادثة البوعزي ... يا فايدة حمدي؟
*لم أحس لحظة على اختلاف مراحل العمر أني قد قصّرت في واجبي والذي حدث أني طلبت من المرحوم البوعزيزي عدم الانتصاب بذلك المكان الذي يمنع فيه الانتصاب الفوضوي خاصة وأن أصحاب محلات الخضر في سيدي بوزيد قد اعتصموا قبل يوم من وقوع الحادثة وطالبوا بتطبيق القانون ضد الانتصاب الفوضوي ولم أنتظر لحظة أو أتوقّع حتى أن يرد البوعزيزي بحرق نفسه، فلقد سحب منه زميلي «الميزان» وسلّمه إليّ، وهنا تصرّف تجاهي المرحوم البوعزيزي بجذبي من زيي الرسمي ومن ملابسي الأمامية وسب الجلالة وجرح اصبعي في محاولة لافتكاك الميزان فطلبت تعزيزا من الأعوان وبقية الحكاية تعرفونها، لكن في النهاية هي أسباب لحكمة لا يعملها الا الله حتى تقوم الثورة في تونس، علما أن زملائي حينها طلبوا منّي أن أقدّم قضية عدلية ضد البوعزيزي بتهمة الاعتداء على موظف الا أني رفضت ذلك قطعيا لأجد نفسي ضحية ومتّهمة.
ويعلم الجميع في سيدي بوزيد أني كنت أعمل وفق القانون وضد الفوضى، ولكني أراعي الظروف الاجتماعية والانسانية وكثيرا ما كنت أسدّد ثمن خطايا من جيبي عن أناس حرّرت ضدّهم محاضر لمخالفتهم القانون.
لكن الأحداث تسارعت بشكل كبير وخطير ودخلت الى السجن؟
ـ لعلم الجميع أن المرحوم البوعزيزي لم يحرق نفسه بسبب ما جدّ بيني وبينه، ولكن بسبب عدم مقابلته للوالي كما قيل لي، وبعد ساعتين من الواقعة، وكم كنت أتمنى أنه لم يفعل ذلك، فلقد حوسبت بذنب لم أرتكبه في حقّه.
على أية حال هي أسباب أفضت الى ما أفضت اليه، حتى أمر «المخلوع» وآذن بايقافي ويجعل منّي كبش فداء ليغطي على خطاياه ويداري أخطاءه، ولكن تجري الرياح بما لم تشته نفسه الأمارة بالسوء، فقد تواصلت الاحتجاجات ضد المخلوع، وأصرّ الشعب الأبي على تنحيته وخلعه من السلطة... لقد حدث كل الذي حدث منذ لحظته الاولى وكما قلت لحكمة لا يعلمها الا الله، «وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم».
... وتم اعتقالك... كيف تم ذلك...وبماذا شعرت لحظتها؟
ـ إنني لا أقدّم اجابة من عندي على هذا السؤال ولا أحاول بل من واقع مرير عشته بأدق تفاصيله فلقد شعرت أني سائرة الى رحلة نحو المجهول من يوم 28 ديسمبر 2010، ومع منتصف الليل تحديدا، حين قدمت فرقة العدلية وقادتني الى تحقيق عادي كما قيل لي، وتم وعد أفراد عائلتي بأني سأعود الى البيت وتم الاحتفاظ بي 3 أيام على ذمّة التحقيق، ثم تم ترحيلي الى السجن يوم 31 ـ 12 ـ 2010، لقد حملوني الى السجن المدني بقفصة، فغامت الدنيا في وجهي، بفعل الدموع الغزيرة التي كانت تتدفق من عيني كنهر سريع الجريان ولم يكن يخايلني شيء سوى صورة أمي المسكينة المسنّة، وصورة والدي المسكين المسنّ المريض بالسكري... وكنت أصرخ في داخلي صراخا متواصلا وأقول «وا& العظيم مظلومة... وا& العظيم بريئة»!! ولكن من كان يسمعني في تلك الظروف ومن كان يصدّقني!! وهكذا فإن الدوافع الى حالة الفوران الداخلي، كانت هي نفسها المسؤولة الى حد كبير عن تراجع حالة الفوران، واحتسبت بقول الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام لصاحبه أبي بكر، في قوله تعالى: «لا تحزن إن ا& معنا».
... ودخلت الى السجن... بأي مشاعر دخلت... وكيف استقبلت؟
ـ دخلت طبعا بمشاعر ممزّقة، ثم صدمتني الحقائق، فلقد وجدت تعاطفا من كل زملائي... لقد عاملوني معاملة طيّبة وأكرموا وفادتي وأحسنوا إليّ، في اللحظة التي تخلّى عني فيها الجميع، وأدخلت الى غرفة بها 16 سجينة، وكنت أعجب منهن كيف يحتفلن بليلة الريفيون وهنّ في السجن، وقلت في نفسي من أين يأتين بكل هذه القوة للضحك والابتسام، في ذلك المكان الرهيب.
كنّ يضحكن ويرقصن وكنت أجلس وحيدة أبكي فراقي لأمّي فأنا متعلّقة بها كثيرا، ثم ألهمني ا& صبرا كبيرا فتواءمت مع واقع الحال، ولم أخبر زميلاتي في السجن الا بعد شهر من الزمن بحكايتي، لقد خفت من ردّة فعلهن في البداية،ولكن عندما عاشرنني واستمعن الى حقيقة أمري تعاطفن معي، وكن يعاملنني باحترام بالغ.
لكنك دخلت في اضراب جوع متواصل... لماذا يا ترى؟
ـ عندما علمت بفرار المخلوع من بعض أعوان السجن، قلت في نفسي «ها قد قرب موعد الفرج»! وسأغادر السجن لا محالة، ولكن عندما طال بي المقام هناك نسبيا وأسرّ إليّ أفراد عائلتي وخاصة والدي المسكين بأنهم قد تعرّضوا للمهانة، ولم يجدوا آذانا صاغية تستمع اليهم وقد جاهد المسكين لاثبات براءتي، شعرت بالغبن والقهر والكآبة، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته أليس كذلك؟ وهنا ضاقت بي الدنيا على رحبها ووجدتني أدخل في اضراب جوع لمدة شهر حتى أسمع صوتي لمن لا يريد أن يسمع صوتي، فمكوّنات المجتمع المدني رفضت التواصل معي، وبعض المحامين الذين اتصل بهم والدي رفضوا أن يدافعوا عني، ومنظمات حقوق الانسان لم تزرني ولم تسأل عنّي، والشعب الكريم لفظني، فماذا تراني أفعل في ذلك الموقف العصيب؟! والاعلام حتى الاعلام أجج عليّ الرأي العام حين قدّمني كمذنبة، لا كضحية طبقت القانون واكتوت بنار هذا القانون!!
وهكذا تآلب عليّ الجميع... وإذا أنا في ذلك الموقف الذي لا أحسد عليه... الغريب في الأمر أني لم أشعر أن شعبا كاملا ضدّ فتاة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، بل شعرت أني واحدة من الشعب ولكني مظلومة الى حين... فصبرا جميلا على ما يصفون!!
عندما تجلسين وحدك الآن فيم تفكرين تحديدا؟
ـ كثيرا ما أطلق لخواطري عقالها أفسح لها مجال التفكير والتأمل وأنا أعرض أشتات المشاهد المزعجة التي صادفتني أثناء هذه المحنة أو الابتلاء... لقد دخلت إلى السجن فعليا يوم 31 ديسمبر 2010 وخرجت من السجن بعدما برأتني المحكمة يوم 19 أفريل 2011 أي 3 أشهر و20 يوما بالضبط!
وعليه فإني لأسجّل تمجيدي وافتخاري بزملائي الذين لم يشكّوا لحظة في براءتي وإني لأحني رأسي إكبارا لهذا الشعب التونسي العظيم وأخصّ بالذكر أهالي سيدي بوزيد الذين وقفوا معي، وأنصفوني وردّوا إلي اعتباري.
كما لا يفوتني أن أقبّل المحامية بسمة الناصري المناصري التي وقفت معي حتى النهاية وآمنت بقضيتي وبحقي في البراءة علما أني قضيت مدة السجن في بكاء وحزن متواصلين.
كما أرى من الواجب أن أشكر أحرار تونس والعالم وأشكر قضاءنا النزيه المستقل الذي ملأني خشوع وإكبار لعدله الكبير... فلا خوف على تونس من هنا فصاعدا ما دام فيها قضاء نزيه فالعدل أساس العمران.
على أن هذه المحنة التي مرت بي في مجملها أرهفت من حسي، وأذكت من بصيرتي فاستطعت أن أتنوّر من أسرار الوجود وطبائع النفس بعض ما لم يكن لي به علم.
وما أعظم هذا كسبا في معترك الحياة!
هل تم إسقاط الدعوى من ورثة البوعزيزي كما سمعنا؟
ـ لا لم يتم ذلك، ولم أكن لأقبل ذلك فإن تم إسقاط الدعوى كما أشيع فمعنى هذا أني مذنبة، ولكن لأني بريئة فقد استمعت إليّ هيئة المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد وحققت في القضية جيّدا وبتروّ ونزاهة واقتدار، فقد حكمت بأن «لا قضية في الموضوع» ومعنى هذا أني لم أرتكب جرما في حق البوعزيزي ولم أصفعه كما أشيع، وأن كل ما زعم حولي وفي حقي هو من قبيل الباطل والمزايدات واللغو هنا وهناك.
إنّ كل شيء كان باطلا، فلقد دخلت إلى السجن بتعليمات ـ كما يبدو ـ من «المخلوع» في محاولة منه لإخماد نار الثورة التي انطلقت وتغلغلت وتعمقت ولكن جاءت الثورة بقضائها النزيه لتحررني وإنني في النهاية أعذر الطبيعة البشرية في الناس، فقد كانوا في حالة غليان واحتقان وبعد أن عرفوا الحقيقة واستمعوا إلى صوت العقل والمنطق وقفوا إلى جانبي... هذا هو كل ما في الحكاية.
بعد أن انجلى الضباب عن عينيك أو كاد... ماذا خلفت لك هذه المحنة القاسية من عبر إذن؟
ـ أولا أودّ أن أقول وأكرّر إنني لم أصفع البوعزيزي أبدا، وما كانت لمثلي أن تفعل هذا أبدا، وطبعي أن أصابر وألاين الناس مع تطبيق القانون... لقد تعلّمت الصبر وأن أكون أكبر نفس من جلادي وظالمي، كما أؤكد أني لست نادمة على شيء ولا ناقمة أو حاقدة على أحد، على أن هناك ناحية أعدها أساسية في ما خلص لي من تجارب العمر... تلك هي أنّ أكذوبة الحياة تتقاصر دونها أطماع النفس، وينهار أمامها جبروت الكائن الحي، حيثما كان ولكم عبرة في المخلوع الآن؟!
فلقد أراد أن يجعل مني أنا الضعيفة كبش فداء، فذهب هو هباء! فالله قد يضع سره في أضعف خلقه.
كل شيء يا سيدي يجري عليه سنن التطور، وأنت ملاق نصيبك منه رضيت أو كرهت وماأسعدني الآن وأنا في موقفي هذا بعد أن مررت بالذي مررت أن يكون هذا الفتح المبين لوطني العزيز فأترحم على الشهداء الأبرار الذين فدونا بأرواحهم وجعلوا الشعب سيد نفسه وصانع قراره!
كيف هي حالتك الصحية الآن وهل ستطالبين بالتعويض بعد أن برّأك القضاء وأنصفك؟
ـ لا أنكر أن أعصابي منهارة إلى حد الآن وأشعر ببعض الارتعاش في مفاصلي كلما عاودتني الذكريات المؤلمة، كما لا أنكر تساقط شعري فما جد في حياتي فجأة وعلى حين غفلة يشيب له رأس الوليد لكن الحمد لله على كل حال أما عن التعويض وخلافه فالمحامية الأستاذة بسمة الناصري المناصري أدرى مني بهذه الأمور وما تقرره هي فأنا أنزل عنده، فأنا مدينة لها بوقفتها الإنسانية والحضارية والقانونية والأخلاقية معي ولله الشكر والفضل على كل شيء.
هل تمّت تسوية وضعيتك المهنية؟
ـ في طريقها إلى التسوية النهائية، وقد وعد وزير الداخلية بإعادة مرتبي الذي لم أتسلمه منذ 1 جانفي 2011 وها أنا أنتظر وأرجو أن لا تطول المدة أكثر من ذلك فكل رأس مالي هو ضميري وعملي ومرتبي.
كيف كانت لحظات توديعك أثناء مغادرة السجن؟
ـ كانت لحظات لا تنسى كانت بالزغاريد والدموع، فيوم المحاكمة تأكد الجميع من براءتي وأني سأغادر السجن، لذلك حضرت لي السجينات ملابسي وانتظرن عودتي لوداعي وأقسمن عليّ بأن أتناول الطعام الأخير معهن وكان «عجّة» على ما أذكر.. إن لم تخني الذاكرة!
لقد دخلت إلى السجن بمشاعر ممزقة وغادرته بمشاعر ممزقة، مشاعري الأولى كانت خائفة وحزينة ومدمّرة.. ومشاعري الثانية كانت مزيجا من الحزن والفرح... فرحا بالانعتاق والحرية والبراءة وحزنا على فراق زميلات وزملاء لم أر منهم إلا كل خير واحترام وكذلك سجينات استمعت إلى حكاياتهن المريرة.
وفي مطلق الأحوال، فإن الظلم ساعة وأن الحق إلى قيام الساعة، وهذا ما تعلمته في النهاية وإن الله مع الصابرين.
أريد أن أقول إن الضغط الذي مورس عليّ سابقا، أصبح الآن في «خبر كان» وأحس طعما للحرية لم أستشعره من قبل بالتأكيد أحلى ومحسوسا ومؤكدا ومعلنا.
وطال الحديث وطال ولا بد من سؤال النهاية فقلت: ماذا تتمنين آنسة فايدة حمدي؟ وقمنا جميعا.. هي تجيب وأنا قد أزف وقتي بالانصراف؟
ـ ونظرت إليّ فايدة حمدي وقالت: أتمنى أوّلا أن أزور بيت الله الحرام في عمرة لشد ما أنا في حاجة إليها حتى أشكر الله كثيرا وطويلا وعميقا على براءتي بعدما اتهمت في شرفي، وعرضي، وضميري، كما أتمنى ولا حرج لي في ذلك أن أتزوّج وأصبح أمّا وربة بيت (واندفعت تبكي بمرارة وأضافت) كما أتمنى أن أنال مرتباتي المتوقفة عن التسليم منذ 6 أشهر حتى أتمكن من شراء كمبيوتر وأشكر أصدقاء الـ «فايس بوك» على وقفتهم الجادة معي وإنصافي بعدما خذلني الكثيرون بصمتهم الرهيب عن قول كلمة الحق.
على أني أقول في النهاية إن الثورة التونسية هي ثورة مباركة ثورة كرامة، وثورة قيم وثورة على جبروت الطغاة، وإن الرهان عليها راح يتزايد مع كل لحظة حتى النجاح وهذا ما أرجوه لهذا الشعب التونسي العظيم، ولا أرجو غيره علما أن القضية قضية إرادة وليست قضية نوايا والمستحيل ليس تونسيا!
0 commentaires
Enregistrer un commentaire